بالأمس استشهد إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في طهران خلال حضوره مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد.
بهذا الحادث المؤسف لحق هنية بالشيخ ياسين بعد علاقة طويلة جمعتهما سوياً تدرّج فيها هنية في الصفوف القيادية للحركة الإسلامية التي أنشأها ياسين حتى بات مديراً لمكتبه الخاص وكاد يموت معه ذات يوم.
في هذا التقرير نستعرض أبرز المحطات التي جمعت بين الرجلين.
لا شك أن الرجل الذي رافق أحمد ياسين لمدة سبع سنوات، بوصفه مساعداً شخصياً له، ومديراً لمكتبه، تعلم منه كثيراً طوال هذه الفترة، وهو ما كشفه إسماعيل هنية نفسه، في لقاء تلفزيوني، حينما أكد أنه كان ملتزماً دينياً منذ طفولته، وتأثر بنشأته وسط أهله، وكان للشيخ القعيد دور كبير في ذلك، بخاصة أن الأخير كان يعرف بيته وأهله ووالده جيداً.
وبدأت حكاية التلميذ وأستاذه، منذ أن كان الأول طفلاً، ففي حوار مع قناة «الجزيرة»، ذكر هنية أن اللقاء الأول الذي رأى فيه الشيخ أحمد ياسين كان عام 1972 أو 1973، بخاصة أنهما كانا من سكان مخيم الشاطئ في غزة، موضحاً، «كان يأتي إلى مسجدنا ويلقي الدروس، وكنت أراه وعمري 10 أعوام، وكنت أسلم عليه سلاماً عابراً».
نشأة إسماعيل هنية الدينية، وتأثره بالشيخ أحمد ياسين فتحا له الباب أمام الانضمام للحركة الإسلامية، في مطلع ثمانينيات القرن الماضي، وكان من المعروف حينها أن الجماعة تسعى لتثبيت جذورها في مناحي الحياة كافة، وبخاصة داخل الجامعات.
ومن هذا المنطلق تولى إسماعيل هنية رئاسة اتحاد الطلبة في الجامعة الإسلامية، وحينها كان الشيخ أحمد ياسين مرجعية الطلاب آنذاك، مما جعله يتعامل معه عن قرب ويتأثر به، ونشأت بينهما علاقة يبدو أنها لم تكن عادية، لذلك وقع عليه الاختيار أن يكون مساعداً شخصياً لرئيس حركة حماس، ومديراً لمكتبه في عام 1997.
بالطبع لم يكن هذا الاختيار من قائد مثل أحمد ياسين، ناجماً إلا عن معرفة طويلة ونظرة ثاقبة متفحصة لشخصية أبوالعبد، فما إن خرج الشيخ الراحل من سجون الاحتلال الإسرائيلي في عام 1997، حتى اختاره لهذه المهمة التي بقي فيها سبع سنوات، الأمر الذي أكسب إسماعيل هنية مكانة كبيرة لدى حركة حماس، وأصبح ممثلاً لها داخل السلطة الفلسطينية.
عن هذه الفترة التي قضاها رفقة أحمد ياسين، قال إسماعيل هنية، «لقد عملت مع الشيخ لمدة سبعة أعوام، كانت كلها بركة، وتسببت في صقل شخصيتي أكثر».
وتحدث إسماعيل هنية، عن سنواته الأخيرة التي رافق الشيخ خلالها، في لقاء آخر، فقال، «لقد شرفني الله بأن ألازمه هذه الأعوام منذ أن خرج من السجن عام 1997، والله لقد تربيت في تلك السنوات وتعلمت أكثر مما تربيت وتعلمت طيلة حياتي؛ فقد كانت أعواماً مختلفة».
ويوضح رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، «لقد عشت مع الشيخ وأكرمني الله– وأنا من تلامذة تلامذة الشيخ– أن أكون إلى جنبه مصاحباً ملازماً له، لا أقول ذلك مبالغاً وتقديساً، فنحن لا نعبد الرجال، لكننا ننزلهم منازلهم»، مؤكداً، «كان الشيخ كالأب الحنون لعائلته الصغرى وعائلته الكبرى (حماس والشعب الفلسطيني)».
وفي أحد اللقاءات التي حضرها إسماعيل هنية برفقة شيخه أحمد ياسين أثنى عليه وعلى ما رآه منه طيلة حياته، من جهاد في طريق الدعوة، فقال، «كنت صبياً في مخيم الشاطئ، والشيخ كان به أيضاً، وكان له سيارة وسائق خاص، تجده الظهر في مسجد، والعصر في آخر، وهكذا، واليوم في غزة، وغداً في رفح»، متابعاً، «هذا الشيخ طوال النهار من صلاة إلى صلاة ومن مسجد إلى آخر، قياماً بواجب الدعوة إلى الله، عز وجل، وهو على هذا الحال».
ويصف هنية حال الشيخ أحمد ياسين في سنوات ما قبل الكرسي المتحرك، عن قرب، فيقول، «رأيته يمشي على قدميه يضرب بعضها ببعض، ومن شدة صعوبة المشي، يلقى على وجهه أرضاً، لا يستطيع أن يقوم إلا إذا أقامه الناس».
كان الجميع يعرف الحياة العامة للشيخ أحمد ياسين، لكن هناك أسراراً وحياة شخصية لا يعرفها إلا أقرب الناس منه، وكان منهم إسماعيل هنية الذي سئل في لقاء تلفزيوني، عن حياة شيخه التي عرفها عن قرب، فقال، «كانت علاقته قوية بالله جداً، له ورد قرآني كان يقرؤه يومياً مهما كانت أعماله، لا يقل عن جزء، وكان يحافظ على قيام الليل وصيام النفل».
وبحسب دراسة بعنوان «دور الشيخ أحمد ياسين الدعوي والاجتماعي» لصاحبها صلاح أبوعيطة، فإن هنية كان يحكي عن شيخه حب الإنفاق على الفقراء والمساكين، وقال عنه، «في مرات عديدة كان يأتي أناس يطلبون المساعدة فيعطيهم الشيخ ما يحتاجونه، وكان يقول، لو أن عندي جبلاً من المال لأنفقته في سبيل الله».
هذه المواقف وغيرها غيّرت كثيراً من شخصية هنية، يحكي، «وأنا أرى هذا الشيخ الذي فيه كل الأعذار يفعل ذلك، تأثرت شخصيتي بعد ذلك، كشخص ومسؤول وقائد».
وكان الشيخ يتمتع بعلاقات قوية مع أقاربه ومعارفه، وكان دائم الاطمئنان عليهم، وهو في ذلك لم يترك مساعديه، لا سيما إسماعيل هنية الذي نقل عنه قوله، «لقد كان (الشيخ) كثيراً ما يسألني عن بيتي، وإذا ما شكوت له هما اجتماعياً وجدت مبتلى في ذلك، فحينما زوجت ولدي عبدالسلام في أول الانتفاضة لم أقم عرساً، لكن الشيخ بعد ثلاثة أسابيع جاء مع زوجته أم محمد وأولاده، وجاء بهدية وقدم لولدي (نقطة) الزواج، وعندما زوجت ابني الثاني همام، جاء الشيخ وسألني إن كنت بحاجة لإكمال بيت الزوجية».
بمرور الوقت احتل إسماعيل هنية مكانة كبيرة في قلب الشيخ أحمد ياسين، لذا كان البعض حينما يطلب أمراً من الأخير ويجد رفضاً، يستعين بهنية ليتوسط له في ذلك، ومنهم الإعلامي أحمد منصور الذي ألف كتاباً سماه «الشيخ أحمد ياسين شاهد على عصر الانتفاضة».
ويروي منصور في مؤلفه كيف استعان بإسماعيل هنية ليتوسط لدى الشيخ، عندما أراد كتابة هذه المذكرات، فيقول: «وحينما عزمنا على تدوين الشهادة في ذلك الكتاب، واجهنا مع الشيخ تحفظات ومخاوف، فالساحة الفلسطينية ساحة حساسة للغاية، وبحاجة إلى اندمال الجروح، لكننا بعد جهد استمر عدة أشهر، نجحنا في إقناعه بمساعدة من بعض المحيطين به في غزة، لا سيما إسماعيل هنية الناطق الرسمي باسم حماس في غزة، الذي بذل معي جهداً طيباً أشكره عليه، إذ وافق الشيخ مشكوراً وكتب لهذا الكتاب مقدمة، يؤكد فيها شهادته لتصبح هذه الشهادة شهادة له على العصر.. عصر الانتفاضة».
وفي لقاءاته التلفزيونية، كان إسماعيل هنية دائم الاحتفاء بشيخه الذي رباه وكبره، وفتح له الباب ليكون رمزاً في حركة حماس، فيقول عنه، «كان ودوداً وسهلاً مع إخوانه، لكن مع العدو الإسرائيلي كان قوياً وأسداً، وروح المقاومة تسوده، جسد مشلول صنع ثورة، وفجر انتفاضة، وكان لا يهاب الاحتلال الإسرائيلي».
ويكشف التلميذ عن جانب مهم في حياة أحمد ياسين، وهو رد فعله على أفعال العدو الغاصب، فيؤكد أن الشيخ لم يكن يغضب بشدة إلا إذا انتهكت حرمات الله، ويعطي توجيهاته بسرعة لتغيير ما يرى أنه ليس بحق، ويثور إذا حدثت اعتداءات من الاحتلال الإسرائيلي، من مجازر أو قتل أبرياء أو التعدي على المسجد الأقصى.
لكن بحسب هنية، فإن الأسرى كانوا يحتلون مكانة خاصة في عقل الشيخ وتفكيره، يؤكد، «كانوا يسكنون في قلبه ووجدانه»، وفي مناسبات المجتمع كان الرجل القعيد رغم ما به، لا يتخلف عن مناسبات المجتمع من رفح إلى بيت حنون.
هذا الحال الصعب والهمة العالية لدى الشيخ، جعلت تلميذه هنية يرأف بحاله ذات مرة، عندما عاد أحمد ياسين من الخارج من مهمة، لكنه ما برح يصل حتى علم بعزاء آخر فصمم على الخروج إليه مرة أخرى، فطلب منه أن يستريح هذا اليوم.
وهنا لم يكن من الشيخ إلا أن علم تلميذه درساً في القيادة، والمهمة التي يسعون إليها، ليتركهم يسيرون على دربه، يقول إسماعيل هنية، «رد علي قائلاً: يا إسماعيل.. يا أبوالعبد، إحنا كيف انتشرت الدعوة، وكيف انتشرت الحركة بين الناس.. بالاحتكاك بهم ومواساتنا لهم، واللقاءات والاجتماعات بهم».
وبحسب المؤلف سيد العفاني، في كتابه المعنون بـ«شذا الرياحين من سيرة واستشهاد الشيخ أحمد ياسين»، فإن إسماعيل هنية كان مرافقاً لمؤسس حركة حماس، عندما تعرض الأخير لمحاولة اغتيال فاشلة في السادس من سبتمبر عام 2003، حين قصفت مروحيات إسرائيلية شقة في غزة، كانا بها معاً، وحينها أصيب الاثنان بجروح طفيفة.
وعندما اغتيل الشيخ أحمد ياسين، في 22 مارس 2004، لم يكن إسماعيل هنية معه، لذلك وقف في حشد جماهيري بعدها بأيام ثم ألقى خطبة بليغة عن الصعوبات التي عاشها ياسين حتى كرمه الله بالاستشهاد.